JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

الحداثة والإسلام؛ جذور التشكيك في السنة والقرآن الكريم

 ملخص البحث؛

أغلب الشبهات حول القرآن والسنة إن لم يكن جميعها قد طرح تحت مظلة الفكر الحداثي الغربي المادي وإن غاب تصريح ذلك أحياناً إلا أن كتابات المشككين طافحة بهذا المنهج الذي إنتهى منذ عقود، وتعد أحد مداخل هذا المبحث في إسقاط قدسية النص الديني ورده إلى عالم الخيال هو مذهب "التاريخانية" و "التأويلية" وكلها تهدف إلى عقلنة النص الديني وجعله مجرد عمل شعبي قديم سيكرت عليه الثقافة والجهل والتخلف، وكل ما نسمعه من شكوك وأباطيل حول الإسلام إنما هو كذلك من وجهة نظر "الحداثة ومناهجها المادية" وليس أنه وجدت أدلة تؤيد هذا القول، هو أشبه بنظرية التطور على سبيل المثال والنظرة العلموية للعالم فكل هذه المناهج والمذاهب تفترض أن يكون العالم هكذا إذا صح فعلاً أن العالم غير حادث أو أنه لا وجود لله، كذلك هي نفسها مع النص الديني لا سيما الإسلامي فهي تفترض مجموعة واسعة من التخمينات حول طبيعة المنشأ للنص الديني ومن هنا تستنبط نتائج أكثر خيالاً من الأول، وشبهات الإستشراق حول تأخر السنة وإحالتها للعصر العباسي أو إحالة الإسلام لبلاد الشام إنما هي مساعي الحداثيين والمشككين حول تفسير النص القرآني والسني بشكل حداثي وما ذكرته السردية الإسلامية حول نشأة الإسلام في الحجاز لا تتلائم مع ما يمكن للنبي والمسلمين إختراعه والإتيان لأنها إفترضت كون الإسلام ولسد بيئته الأرضية ونفت سماوية الرسالة، فالناظر لأقوال المشتشرقين ومن تابعهم يلاحظ هذه التحيزات والإفتراضات الواسعة الخالية من الدليل ..

ما هي الحداثة؟

على عكس المشهور فإن الحداثة ليست ذلك الجانب الراقي والمتحضر من الحضارة الغربية كما في أذهان المغفلين، وإنما هي مذهب أدبي أو نظرية فكرية تدعو إلى التمرد على الواقع والانقلاب على القديم الموروث بكل جوانبه ومجالاته 

وهي كذلك في قول الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط عند إجابته عن سؤال "ما الأنوار ؟"، فأجاب في مقولته المشهورة: "الأنوار خروج الإنسان من حالة الوصاية التي تتمثل في عجزه عن استخدام فكره دون توجيه من غيره

وأما التحديث بمعنى التطوير والتقنية فهو أيضاً وسائل الحداثة وأدواتها لتنفيذ الفعل الحداثي، والذي هو تسويد الإنسان على الطبيعة وإطلاق حرياته في كل اتجاه، وكسر كل قيد يخالف أو يضبط هذه التوجهات 

وللتأكد أكثر فكلمة التحضر والتحدث تم استخدامها في عام 1568م لوصف التقدم والتفوق، وقد استخدمت الكلمة الإنجليزية civilizes للتعبير عن عملية التحول من وضع أدنى إلى وضع أكثر تقدما

وهي كذلك في تعريف المفكرين الغرب:-

أورتيكا كاسيت: [الحداثة هدم لكل القيم الإنسانية التي كانت سائدة في الأدب، إنها الفن الثائر على الناس والزمان والتاريخ]

فرانك كيرمود: [إن الحداثة تأخذ الفن إلى ظلمات الفوضى واليأس

ليونيل ترلنك: [إن ما تعنيه الحداثة هو اللاعقل والاضطراب والأحزان الشخصية العميقة والفوضى الاجتماعية الكاسحة والعدمية والموقف المعاد للحضارة والتورط والغربة واللانظام ]

وماكس ويبر يرى [أنَّ الحداثة هي فصم الائتلاف والوحدة بين السماء والأرض؛ مما يخلي العالم من وهمه ويلغي سحره

وكذلك الحداثي التونسي  علي المزغني: [والحداثة هي مجموع خصائص المجتمعات المتقدمة وبالذات المجتمعات الغربية، ويمكن أن نصنف هذه الخصائص صنفين : خصائص مادية متعلقة بالمستوى الاقتصادي والتقني، وخصائص ثقافية أو فكرية]

ويمكن أن يتم تلخيصها بعبارة الحداثي العربي أدونيس [إن منطق الإلحاد هنا [ هو وحده الذي ] يعني العودة إلى الإنسان في طبيعته الأصلية ...... توكيداً على إرادة الإنسان الخاصة، بحيث يكون عقله هو شريعته وقوته والله القدس بالنسبة إلي الإلحاد ، هو الإنسان نفسه، إنسان العقل ولا شيء أعظم من هذا الإنسان ، إنه حل العقل محل الوحي، والإنسان محل الله، ومن هنا يقدم الإلحاد نفسه ، كنواة لحياة المستقبل، وفكر المستقبل، مقابل التدين الذي يرد الحاضر كله فكراً وعملاً، والمستقبل كله إلي الماضي ، إنه ( الإلحاد ) بتعبير آخر ، أول شكل للحداثة

وتعتمد الحداثة أن كل العقائد والانتماءات والثقافات التقليدية، هي أساطير وخرافات ومختلقات بشرية، ولذلك تعتبر الحداثة أن من أهم مستلزمات الانتقال من هذه الأوساط المعرفية التاريخية، هو تدميرها وتجاوزها، ووصم القائمين عليها بأنهم يعيشون في عالم متخلف متأخروهذا المنطق المعوج تم هدمه من عقود ولم يعد ذا قيمة حقيقية في الغرب بل أصبحوا يأخذون بمذهب ما بعد الحداثة الذي يشكك في موضوعية العقل نفسه ويشكك في كل شيء كما عبر عنه الناقد الأميركي جيو فيري الذي يقرر أنه لم يعد هناك ما يمكن أن نطلق عليه مدرسة الحداثة أو المدرسة البنيوية، وأن هذه المدارس قد اختفت ولفظت أنفاسها الأخيرة ولم يعد لها أي وجود، ويقول المؤلف الذي نقل الخبر معلقاً عليه[ إنني لاحظت أننا لا نتابع التيارات النقدية الحديثة، فقد وقفنا عند البنيوية، مع أنها قد انتهت منذ عشرين عاماً ، فلماذا يكتب الدكتور ( فلان ) عن البنيوية حتى الآن، وهو مثقف متابع لكل التيارات الجديدة ؟ ثم يعلق الكاتب ومن هنا ثارت علامات الاستفهام عن اسر الخطير وراء تشبث دعاة الحداثة بهذا المذهب والاستمرار في هذا الاتجاه، وهم يعلمون تماماً أن هذا الأمر قد تلاشي في بلاده فضلاً عن أنه لا يصلح لبلادنا ]

بدايات الحداثة

تمتد جذور الحداثة إلى الثقافة الرومانية واليونانية القديمة وي التي شكلت نظرة الغرب تجاه التقاليد والموروثات بمعنى أوضح نحو "الدين/الميتفازيقيا" وقد كان حفظ المسلمين لذلك التراث حجر الأثاث في ركن الحداثة الأول ويقول جوناثان براون [أبان المؤرخون اليونانيون والرومان عن شكوكية شاملة لم تستطع العقول الغربية مقاومة جاذبيتها، وقدموا مثال المؤرخ باعتباره محللا مستقلا مقابل الأخباري المسيحي، ومن الطريف أن التعاطي من جديد مع الفلسفة الكلاسيكية لم يحفز التفكر في الميتافيزيقا واللاهوت بقدر ما أدى إلى التركيز على دراسة القوانين التي تحكم العالم «المادي»] 

بحيث إعتمدت الحداثة على أصول التراث اليوناني الروماني ضمن الجانب المادي وتجاهلت تماماً الجانب الروحي، وهي تنصب نفسها فوق كل العلوم بلا أي بينة أو دليل بل هي تناطح نفسها غالباً كونها تزعم الموضوعية التامة والرصد المباشر للأمور لكنها تتجاهل أساسها وتعود لتعتمد على أسس فلسفية في تقريرها بصحة تجاربها وبالتالي موقفها الرافض للوحي والبغض التام للدين وكل يمت له بصلة إنما يرجع لما رصف عليه الفلاسفة القدماء في عصر النهضة معايير الصوتب والخطأ بما وجدوه من فلسفات بالية للأقدمين أكل عليها الدهر وشرب لذلك لا تتفاجأ من كثرة الإفتراضات حول نشوء القرآن والسنة والزعم بوجود تآثر إسلامي بالتراث اليهودي والنصراني بل حتى الأساطير المطمورة لقرون ولم يكشف عنها إلا قبل بضعة عقود بل من الممكن أن يصل الحال بالحداثيين الغرب أو من يسمون بالنقاد التاريخيين أن يدمجوا إفتراضات وجود كائنات فضائية ساهمت في إكتمال النص القرآني!! لا أمزح فالذي صدق معرفة النبي بتراث الكوكب كله من مشرقه إلى مغربه رغم وجوده في بيئة قاحلة بدائية عقيمة المعارف بالعلوم يمكنه أن يصدق ما هو أغرب وأضحك في نفس الوقت! وكذلك مما لا شك فيه أن الإسلام هو السبب الأول والرئيس بل هو الوحيد الذي بدأ الشرارة الأولى لشعلة العقل الأوربي وقد تم تلخيص ذلك بتفصيل تام في مقال "كيف صنع الإسلام العلم الحديث"ويؤكد على كلامنا ما أوضحه العديد من المؤرخين بأن بدايات الحداثة إعتمدت على علوم إسلامية 

كذلك الفيلسوف الألماني ألبرت شواتيزر وذلك بعد فتح إستنبول على يد محمد الفاتح وسقوط الدولة البيزنطية 

ويعد إختراع الطباعة عام 1450م حدث جلل في تاريخ الثقافة الأوربية حيث أسهم ذلك في نقل المعرفة الإسلامية للوسط الأوربي بشكل أكبر وأيسر من ذي قبل وقد كانت أولى الكتب المترجمة هي الكتب العربية!

وفي هذا الصدد تقول المستشرقة زيغريد هونكة [لم يكن عالم في أوربا إلا ومد يده إلى الكنوز العربية يغرف منها ما يغرف، ولم يكن هناك كتاب واحد من الكتب التي صدرت إلا وأرتوت بالري العميم من الينابيع العربية، فالكتب التي درسها الباحثون كانت كتب علماء المسلمين

وتعد مراكز الترجمة ومشاركة اللغة عامل مهم في تلك النقلة النوعية في المعرفة

الحداثة والإسلام وجذورها التاريخية

إن التشكيك في القرآن والسنة يعود لنظرة المؤرخين الغرب ومنهج النقد التاريخي الذي هيمن عليه مذهب الطبيعانية أو النذعة المادية الغربية القائمة دائما على إحتكامها للمحسوسات الحاضرة لا الغائبة مهما بلغت الأثار والدلائل عليها فيقول جوناثان براون أستاذ الدراسات الإسلامية الأميركي [جواب ذلك أن طريقة العلماء الغربيين عموما في رؤيتهم للروايات عن الماضي والروايات عن تاريخ الأديان والكتب المقدسة خاصة، ليست محايدة، فهي نتيجة تقاليد سياسية وثقافية معينة، ومع كون هذه المنهجية تفخر بإلقائها النور على الخبايا المظلمة للتاريخ البشري، فإنها لا تخلو من نقاطها العمياء]

وتسمى هذه النظرة منهج النقد التاريخي (م,ن,ت) ويقوم على التشكيك والنقد للمصادر التاريخية بناءاً على مجموعات من الإفتراضات حول المجتمع البشري وهكذا وقد بدأ مع القرنين الحادي والثاني عشر وتلك اللهفة للشك والإنكار تحت مسمى النقد إنما هي نظرة رفضت الدين ككل وبدأت تشييد نفسها من منطلق الماديات وتفسير العالم بنفسه لا بشيء خارجه كما يصف اللورد أكتون جذور التحيز والتعصب المادي إلى الردة والرفض لشريعة الله

 وبحيث يحتل النقد مكانة أرقى في سلم التاريخ بشكل يمكنك كناقد من تغيير معلومات وأثار التاريخ وتحوير معناها إلى طبيعة أو ثقافة مجتمعية أو من الممكن أن تكون منتشرة فيما قبل كما فإذاً المنهج النقدي التاريخي يعتمد على عقلية الغرب المادية ومحاولة إعادة الأثر أو النص إلى إطار الخيال والأساطير التي يفترض أنها كانت منتشرة حتى ولو لم يقبع بين يدي الناقد دليل حقيقي يؤكد رؤيته بل فقط الشك بمجرد الوقوع على دليل !!

إذا هذا الموقف لا يدل على العقلانية المفرطة للغرب إنما ظهرت نفس الجدلية عند الرومان واليونانيين، وهذه العقلانية أدت إلى الرفض التام لجميع الحقائق الدينية بإعتبارها أساطير لحقت بالتعاليم الدينية مع مرور الوقت، دون حتى تكليف النفس والنظر إلى دلالتها التاريخية أي التعاليم وما تشير إليه من حقائق لربما كانت موجودة رغم ما لحق بها من تحريف فيقول جوناثان عن ذلك الرفض العام لمطلق حقائق الأديان التاريخية [بحلول منتصف القرن التاسع عشر أصبح ما يُعد جدليا قبل سبعين سنة هو المستقر عليه في الوسط العلمي. وانتقل التركيز الأساسي في الوسط العلمي الجامعي بألمانيا من اللاهوت المسيحي إلى التاريخ ولو أن الجدل لم يزل مشتعلا في الكليات المحافظة في إسكتلندا وأمريكا)، لم يعد المؤرخون يخدمون الكتاب المقدس واللاهوت، فقد تحولت هذه المباحث إلى مجرد مواضيع خاضعة للبحث التاريخي، كان أحد الأعمدة الأساسية ل "م ن ت" أن المؤسسين الأصليين لجميع الأديان لم يكونوا في الحقيقة مسؤولين عن التعاليم التي استقرت لاحقا، كانت هذه الفكرة حاضرة قبل هذا في ملاحظة فولتير أن آباء الكنيسة الأوائل اعتمدوا على أناجيل غير قانونية]

وكلها إفتراصات سببها هو مخالفة العقل أو بمعنى أخر وجود تناقضات في النص تخالف العقل أحياناً دون النظر لأهمية النص التاريخية 

ويقول جوناثان براون [فقد رأى المؤرخون من أمثال جيبون أنفسهم كما فعل شيشرون، واقفين من علو ومن خارج تقاليد الدين الإيمانية المظلمة وهم يعلقون على ثوابت التاريخ البشري الخفية والكائنة بعمق] وألحق أيضاً جوانب تأثير الفلسفة الطبيعانية في أسس منهج النقد التاريخي

وكما [وصف فولتير المجتمع البشري أنه كذلك محكوم بقوانينه الثابتة] فقد كان مبدأ المماثلة المسمى أحيانا بطريقة خرقاء "الوتيرة الواحدة") أحد مبادئ "م.ن.ت" الأساسية. ويقتضي أنه مع كون الثقافات تختلف من مكان لمكان ومن وقت إلى آخر، فإن المجتمعات البشرية دائما تعمل في الأساس على نفس النحو وبسبب هذا يمكننا أن نعيد بناء كيف ولماذا وقعت الأحداث في اليونان منذ آلاف السنين بناءً على ما نفهمه من كيفية عمل الأفراد والجماعات في مجتمعنا الحاضر. إذا كان الناس عموما يميلون إلى تحصيل مصالحهم وتنفيذ أجنداتهم الخاصة، فكذلك كانوا في عصور اليونان أو في عصر المسيح، ولا يمكن واقعيا استثناء أحد من هذه الدوافع !! بل بلغ بعض المؤرخين أحياناً إلى إنكار تاريخية النصوص الدينية مع الدفاع عن الإدعاءات المخالفة لها دون النظر إلى أي أهمية تاريخية للنص!! وهذا عبر عنه عالم الكلاسيكيات جيكوب بيريزونيوس [يقرر هذا المبدأ أن الرواية التي يبدو أنها تناقض أو تعارض الأرثوذكسية - رواية صحيحة على الأرجح ، ذلك أنه لا أحد ممن يحاول صنع تلك الأرثوذكسية أو الدفاع عنها كان ليختلق هذه الرواية]

وتستمر عقلية الغرب العقلاني في نبش الماضي وتقييمه حسب هواه حتى يومنا هذا ويصف جوناثان براون بالتفصيل [وفي حقل دراسات الكتاب المقدس انتهت مسارات التفكير هذه إلى ظهور ما سمي بـ "نقد الشكل" بألمانيا في العقود الأولى للقرن العشرين، جمعت منهجية النقد هذه الشك المسبق في سلامة النصوص إلى جانب ثقة الناقد الحديث في كون صناعتها قد تأثرت بأغراض دنيوية بعيدة جدا عن الدين، حدد نقاد الشكل أجزاء صغيرة من أسفار الكتاب المقدس كانت سردياتها الأوسع قد نسجت منها، وحمل كل من هذه الأجزاء الصغيرة المسماة الأشكال وظيفة معينة في أوضاع محددة في حياة الكنيسة المبكرة، لم يكن الهدف الأساسي من إنشاء ونشر هذه الأشكال الحفاظ على تاريخ المسيح، بل المحافظة على حياة الكنيسة ... اجتمعت فروع الفكر الأوروبي المختلفة في العلم الطبيعي والتاريخ والدين ... منذ نصف القرن التاسع عشر حتى العشرين لتشكل رؤية كونية تشبه بشكل مباشر الرؤية المعروفة لنا اليوم، اعتمدت هذه الرؤية التي يشيع تسميتها بالوضعية المنطقية؛ أنه من خلال هذه المناهج الموضوعة حديثا في العلم والبحث الجاد، يمكن للبشر أن ينحوا الجهل والخرافة جانبا وأن يكشفوا حقيقة محيطهم وماضيهم، واعتمدت أيضًا على السواء من ذلك أن الحقيقة المكتشفة من هذه الطريق وحدها تستحق الاتباع، ومع أن لمحات من الوضعية المنطقية قد ظهرت في النهضة وفي العصر القريب من الثورة الفرنسية، فإن فكرة التقدم كانت عمودًا أساسيًا في فكر الوضعية، وهي أن الحضارة البشرية كانت في تحسن كان هذا الاعتقاد غير مسبوق ومميزا للوضعية بخلاف كل ما ذكرناه هنا سابقًا، لقد كان اعتقادا مجهولا لليونان والرومان وللقديس أوغسطين على حد السواء، ومع حدوث الحربين العالميتين فلا تزال الوضعية المنطقية حية إلى اليوم، وتتمثل بشكل مباشر في الشخصية المحبوبة "شارلوك هولمز" الذي تسمح له منهجيته العلمية المفصلة بإعادة بناء الماضي وتحديد شخصية أي أحد بدقة ... وكما رتب فولتير بإيجاز فإن المؤرخين الذين اعتمدوا الـ " المنهج النقدي التاريخي" صدقوا الأخبار الواردة من الماضي عن الناس إذا كان ما يقولونه ضد مصلحتهم، وكانت قصصهم فيها شبه من الحقيقة، وليس فيها ما يعارض نظام الطبيعية المعهود الافتراضات والمنهجيات المهمة الأساسية التي شكلت المنهج النقدي التاريخي لعلماء أوروبا وأمريكا لاحقا هي التالية:-

1- افتراض الشك في صحة أو موثوقية النص التاريخي أو الخبر 

2- حالة عامة من الريبة تجاه السرديات الأرثوذكسية المعطاة في هذه النصوص أو الأخبار

3- الاعتقاد أنه بتحليل المصادر التاريخية بالمناهج المذكورة آنفا فإنه يمكن للعالم أن يمحص الموثوق من غيره من خلال تمييز أي أجزاء النص التي يمكن أنها خدمت أي الأجندات التاريخية]

وطبعاً لا يخفى علينا المستشرق ثيودور نولدكة أبرز من شكك في الإسلام والذي أخذ بمبدأ الهيمنة والسلطة بقوله [أوروبا الجديدة تثق في معارفها المتفوقة عن النصوص والتقاليد المشرقية] وكذلك وقعوا في مغالطة التعميم الأعمى فيقول جوناثان براون [فإن هؤلاء المستشرقين كانوا يقومون بافتراض عريض، وهو أن ما ثبتت صحته بالنسبة إلى المسيحية والكتاب المقدس فلا بد أن يكون كذلك لكل الأديان والنصوص المقدسة الأخرى]

ومنهج النقد التاريخي هذا أو يمكن تسميته بـ"التاريخانية" قد انتهى الأمر به إلى أن صار ديناً حداثياً كما قال آلان تورين عن الحداثة بأنها [آمنت بالتاريخ، كما أمن غيرها بالخلق الإلهي

وعمل الحداثيين العرب طافح بهذا المنتج الحداثي المسمى التاريخانية فمثلاً يقول الحداثي العربي محمد أركون [السلطة الرسمية قد حرصت منذ البداية على ألا تنقل نسخة معينة من التراث، وهو ما بينته الدراسة التاريخية لعملية الإسناد المستخدم في الحديث النبوي] وسمى شحرور المسميين نفسيهما بتسمية أخرى، هي: السنة النبوية، والسنة الرسولية، فأحال الأولى إلى الاجتهادات النبوية، وأحال الثانية إلى التبليغ والوحي من الإله إلى الرسول؛ إذ قال: "بأنه بمجرد انقطاع النبي ﷺ من لحظة وفاته عن الدنيا لم تعد له علاقة بكل ما حدث بعده، وعلاقة الحديث واضحة بارتباطها بأسباب سياسية واقتصادية وشعوبية وثقافية وعقائدية لتجعل منه عليه الصلاة والسلام مرجعاً لتبرير كل هذه المواقف لأصحابها وهو بذلك يعطي السنة النبوية أيضاً سلطة التشريع لكن في سياق تاريخي متصل بحاجات المجتمع النبوي وأدوات تنظيمه

فهذا عين الدراسة التاريخانية التي تلغي قداسة النص وحتى أنها تؤول معناه ليتناسب مع النظرة الحداثية للتراث وتجعله مقدس بالنسبة لأشخاص محددين في زمن محدد بسبب ثقافة معينة!! فيمكن إجمال الكلام في المنهج التاريخاني في أن قبوله يعني القول بأن الوقائع والتاريخ كانت هي مصدر النص وسبب نشأتها، وهذا ينزع عن النص الديني قداسته وخلوده ووجوب التسليم والإذعان له، وبهذا المنهج يتحقق للحداثي القطيعة مع الغيب والمصادر الميتافيزيقية، وتتم عقلنة النصوص وسلبها صفة استصحاب العمل بها إلى الآن وهذا المنهج يقضي بالنص إلى أحد أمرين: نفي إمكانية تنزيله على أزمنة غير تلك التي صدر فيها، أو وجوب إعادة قراءته وتأويله بالوقائع الجديدة 


التأويلية والسنة النبوية 


التأويلية أو الهرمينيوطيقا هدفت أولاً إلى إيصال الكتاب المقدس إلى العامة، وكسر الحاجز الذي أقامته الكنيسة بين الناس والإنجيل، ثم تحولت التأويلية بعد ذلك إلى عقلنة النصوص المقدسة والسيطرة على دلالاتها التقليدية، وصولاً إلى دلالات متوافقة مع الرؤية الحداثية وقيمها. وقد صور بعض الحداثيين ارتباطهم بالتراث على أنه ارتباط تأويلي لا قطيعة مباشرة معه، وصرحوا بهذه التصريحات مثل قولهم: "لكن كانت الحضارة الإسلامية هي حضارة النص، فإنها أيضاً حضارة التأويل" فيمثل هذه المقولات يعمل الحداثيون منهج التأويل الهرمينيوطيقي في النصوص. وبهذا، فالعلاقة بين التراث والحداثة على المنهج التأويلي هي علاقة هدم، وموقفه منه فيه تناقض ومصادرة أيضاً، وفي وصف أخر هي [القدرة على توليد المفاهيم بفحص النصوص داخلياً، وربطها بسياقها العام خارجياً، وصولاً إلى فهم الظواهر الاجتماعية والفردية والأحداث التاريخية بحيث يحل المؤول القارئ محل المؤلف الأول، فيكون سبباً في انبثاق معان جديدة للنص بعد أن كان المؤلف سبب ميلاد النص تهدف التأويلية إلى تجريد النص من تفسيراته التراثية لأنها عندهم ليست سوى واحدة من إمكانات النص وتمظهراته التي جاءت تلبية لحاجات العصور التي ظهرت فيها تلك التفسيرات التراثية

يمكن اختصار القول في المناهج الحداثية التي درست في المطالب السابقة بأنها أخضعت نصوص الكتاب والسنة النبوية للتاريخ والتأويل، وأنه قد مورس عليها التعقيل والتأنيس، بمعنى أنها نزعت عنها صفة التقديس، وعوملت كسائر النصوص البشرية 



ومما لا شك فيه أن دراسات المتنورين العرب كانت نسخ لصق لكتابات المستشرقين كما الحداثي أحمد خان الذي تأثر وبنى وجهاته على أفكار وكتابات المستشرق الأسكتلندي ويليام موير [لقد أوضح السيد أحمد خان، أحد رواد الحداثة الإسلامية التحديات الحديثة الأولية لموثوقية الحديث وسلطته بدءًا من سبعينيات القرن التاسع عشر، بينما اشتهر السيد أحمد بمحاولاته الجريئة للتوفيق بين الإسلام والعقلانية الغربية، وبإنشاء الكلية المحمدية الأنجلوشرقية في عليكرة، ولم تظهر رؤيته الحداثية إلا بشكل تدريجي، تعكس أعماله المبكرة تبجيلا تقيا للنبي يتوافق تماما مع الروابط المجددية النقشبندية بين عائلته، كما طور تعاطفا مع أهل الحديث، وتحت تأثيرهم بدأ يظهر صرامة متزايدة في تقييمه للتقوى الشعبية بناءً على اتساقها مع الحديث وفي الوقت نفسه كانت لديه علاقات مهمة مع الأوروبيين منذ بداية حياته المهنية ...... وكان لتأثير الدراسات الاستشراقية والمجادلات التبشيرية تأثير عميق في نهاية المطاف على تفكيره تأثرت آراء السيد أحمد حول الحديث بشكل مباشر أكثر بحياة ويليام موير]

موقف المستشرقين الحداثي من السنة النبوية.

يعد أول من صرح بالموقف الحداثي أو شكك في أصول الإسلام من ناحية حداثية تاريخانية هو المستشرق اليهودي جولد تسيهر وتلاه من بعده جوزيف شاخت وبقية المستشرقين والحداثيين إلى يومنا هذا، وسأذكر بضعة أمثلة على هذه المواقف ..

حسب فهم الإستشراق لا يمكن أن يكون الإسلام نشأ في الحجاز لأن النصوص والمعلومات المذكورة فيه لا تتناسب مع ثقافة مجتمع الحجاز في هذا الوقت فيقول أستاذ الدراسات الدينية في جامعة أوريغون ستيفن شوميكر [إن القرآن ينحدر من وسط الحجاز في القرن السابع، وهي منطقة لا نعرف عنها سوى القليل خلال هذا الوقت، فإن ما يمكن أن نعلمه عن الحجاز في تلك الفترة لا يتناسب مع إنتاج نص مثل القرآن وبكل المؤشرات، يبدو أن الدول القبلية في الحجاز كانت امية ومعزولة ثقافيا، ولا يوجد دليل على أي اتصال ثقافي كبير بين الشعوب وحضارات تلك المنطقة .... ونظرًا للطبيعة غير المتعلمة للمجتمعات في تلك المنطقة مكة والمدينة فلم يكن لديهم فعليا أي وسيلة لتلقي الثقافات المتطورة في البحر الأبيض المتوسط والعصور القديمة الإيرانية المتأخرة] ويقول أيضاً رداً على دعاوي المستشرقين المتكررة بإقتباس القرآن من أهل الكتاب واساطير الوثنيين [ليس من المستغرب أن نجد أنه لا يوجد في مكة ولا المدينة أي سكان مسيحيين جديرين بالذكر، فقط حفنة من المتحولين المعزولين الذين في ظل وجودهم في المقام الأول، لا يقدمون أي شيء قريب من خطاب التنصير المطلوب لتفسير الآيات العديدة من القرآن والتي تتحدث عن مختلف التقاليد المسيحية، إن معرفة القرآن بالتقاليد المسيحية التي يتوقعها من مستمعيه تتجاوز بكثير المعرفة الهامشية والمجزأة التي قد تأتي أو يتعلمها المرء من مجرد محادثات مع الجار أو السوق وحتى لو افترضنا أن بعض المبشرين قد زاروا مكة والمدينة من قبل - دون جدوى فهذا لن يكفي لتفسير عمق المعرفة التي يفترضها القرآن لمستمعيه]

ويقول أيضاً [إن الاستنتاج الذي توصلت إليه جويل بوشامب وعالم الآثار الفرنسي «كريستيان روبن منذ أكثر من أربعة عقود كان صالحًا: "لم يكن هناك مجتمع مسيحي حقيقي في مكة والمدينة". وينطبق الإستنتاج ذاته على أعمال سبنسر تريمنغهام حول هذا الموضوع والتي خلص فيها إلى أن "المسيحية في أي من أشكالها المتاحة لا يمكن أن يكون لها أي تأثير على سكان مكة أو أفكار محمد حول القصص المسيحية لأن لم يكن هناك مجتمع مسيحي متاح لمراقبته . وكذلك أكدت تيريزا هينتالر» مؤخرا بأنه: لا توجد دلائل على وجود مسيحية أصلية حقيقية في مكة ولا توجد دلائل على وجود منظمة كنسية في تلك المنطقة لذا لم يتمكن محمد من الحصول على أي معلومات عقائدية موثوقة عن الإيمان المسيحي. ولاحظ أستاذ تاريخ العصور الوسطى هاري مونت : بأنه قد تم تكريس جهد كبير حقاً في الدراسات الحديثة المحاولة إثبات وجود المسيحيين في الحجاز حول مكة والمدينة، ولكن يجب القول أن الأدلة المقدمة عادة على وجودهم في تلك المنطقة لا تزال ضعيفة]

ويقوم بعدها بسرد إدعاءات بأن بدايات الإسلام الأولى كانت خارج الحجاز [لا يوجد أساس للإفتراض أن سكان هذه الأماكن (مكة - المدينة كانوا إما متعلمين جيدا أو على دراية عميقة بالتقاليد الثقافية لليهودية والمسيحية في العصور القديمة المتأخرة، ولهذا السبب، يبدو أكثر منطقية أن نفترض أن أي اتصال ثقافي مهم بين اتباع محمد الأوائل وعالم العصور القديمة المتأخرة لا بد أنه حدث في مكان ما خارج وسط الحجاز، وفي الواقع لهذه الأسباب إلى حد كبير افترض علماء مثل «مايكل كوك» وباتريشيا كرون وجون وانسبرو» «وهوتينج» وآخرون أن بدايات الإسلام يجب أن تكون قد حدثت في مكان أبعد بكثير إلى الشمال]

ويذكر كتاب نشأة القرآن دراسة تاريخية ونقدية عجز العلماء وبحثهم الدؤوب عن أي دليل يثبت التوافق بين النصرانية ومحتوى القرآن في الحجاز [في الواقع لقد سعى العديد من العلماء بشدة إلى أي دليل يمكن أن يوافق بين المحتوى المسيحي الهائل للقرآن وأصوله التقليدية في الحجاز دون جدوى وفي أحسن الأحوال يلجؤون إلى الأدلة الخاصة بالمسيحية على بعد مئات الأميال في أماكن أخرى في شبه الجزيرة العربية متوسلين بأنه على هذا الأساس يجب أن نفترض أن المسيحية لا بد أن تكون قد رسخت نفسها بقوة في وسط الحجاز، على الرغم من الغياب التام لأي دليل على ذلك وأيضًا المسافات الهائلة التي ينطوي عليها الأمر]

حتى يقوم بعدها ستيفن شوميكر بإفتراض سخيف ومضحك وهو أن الإسلام بدأ في الحجاز ثم تطور وأضيفت إليه معلومات لاحقة على مر العصور [يجب علينا أن نفترض أحد الأمرين وكلاهما إشكالي أحد الخيارات هو نقل القرآن على الأقل في جزء منه، من وسط الحجاز إلى عالم العصور القديمة المتأخرة، كما اقترح وانسبرو وكرون وآخرون. وبخلاف ذلك، فإن البديل الوحيد هو استيراد الغطاء الكامل للثقافة الدينية القديمة والمتأخرة إلى الحجاز، كما يفترض في أعمال نيوورت وزميلتها، وعلى سبيل المثال، يدعو نيكولاي سيناي بشكل مباشر إلى إدخال العالم الثقافي للعصور القديمة المتأخرة بالكامل في الحجاز، من أجل جعله يتصور أن النص القرآني قد تم إنتاجه هناك]

ويباشر أكثر في إفتراضاته [يجب أن نسمح بإفتراض) أن أتباع محمد قاموا بتأليف نصوص جديدة تماماً للقرآن عند الفتوحات استجابة للثقافة الدينية الإبراهيمية التي التقوا بها عندما استقروا في أواخر الشرق الأدنى، نظرًا للعزلة الثقافية لمكة، يشك المرء في أن معظم هذه النصوص لم تكن معروفة لديهم من قبل، لذلك اثارت استجابة جذابة من أتباع محمد الذين كانوا يريدون أن تشمل نصوصهم المقدسة غطاء لنصوص الأديان الإبراهيمية (فأضافوها يبدو مثل هذا الإفتراض الديناميكي والمتعدد التكافؤ ضروريا لفهم التاريخ المبكر لنص معقد وغامض في طبيعته مثل القرآن]

فلا يمكن أن يكون القرآن ناشئاً في الحجاز حسب النظرة الحداثية لأن تكوينه يفتقر إلى أي معلومة أو أساس يساهم في إكتماله في بيئة منعزلة كتلك البيئة وهذا هو إقتراح جون وانسبرو وباتريشيا كرون ومايكل كوك [بما أن القرآن يحتوي على العديد من المعلومات الجدلية ضد اليهودية والمسيحية، فيبدو من غير المحتمل أن يكون هذا الكتاب المقدس قد ظهر في مكة (البيئة لا يمكن أن تقدم سوى فرضا قليلة أو معدومة لهذا النوع من المعلومات) الجدلية، لهذا يجادل جون وانسبرو) بأنه لا بد أن يكون هذا النص قد تطور في بيئة طائفية" توحيدية في مكان ما في بلاد ما بين النهرين أو سوريا حيث كانت المجتمعات اليهودية والمسيحية تنخرط في نقاشات حادة، نظراً لأن بعض الطوائف اليهودية والمسيحية المذكورة في القرآن هي طوائف مهرطقة بطبيعتها ... تم تطوير هذه الفرضية بشكل أكبر بواسطة جيرالد هو تنج بينما اقترحت باتريشيا كرون ومايكل كوك في نفس الوقت الذي كان فيه استاذهم وانسبرو ينشر أفكاره عام 1977م أن القرآن: "ربما كان نتاجا لبيئة شمال الجزيرة العربية أو جنوب الجزيرة العربية السورية وليس بيئة مكة

فحتى الدراسات التاريخانية تؤكد هذا الإنعدام الثقافي للحجاز، فنختتم هذه الجزئية بكلام المستشرق والصحفي المسلم روجر دو باسكير وهو أنسب وصف رأيناه عن الحداثة في تفسير التراث الإسلامي [حتى يومنا هذا لم يقدم أحد تفسيرًا يمكن الدفاع عنه لكيفية تمكن تاجر قوافل أمي في أوائل القرن السابع، بقدراته الخاصة، من إنتاج نص بمثل هذا الجمال الفذ، والقدرة على إثارة المشاعر، والذي احتوى على المعرفة والحكمة التي كانت أعلى بكثير من الأفكار السائدة بين البشر في زمنه، إن الدراسات التي أجريت في الغرب والتي حاولت تحديد المصادر التي استخدمها محمد" أو تسليط الضوء على الظاهرة النفسية التي مكنت من إستلهام مؤلفه من "اللاوعي" أظهرت شيئا واحدا فقط معاداة الإسلام والتحيز لمؤلفيها
author-img

عمر عبد الرحمن الحسيني

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    الاسمبريد إلكترونيرسالة